الحصان في خلوته يتأمل

بالحبرالليبي
الأديب:م.اسويسي. 
الحصان في خلوته يتأمل من أنا....؟( تأملات بين الصهيل  والضبح )
في خلوةٍ من ضوء الغروب، حيث تمتزج رائحة التراب بعرقي القديم، أجلس وحدي… أتأمل من أكون.
أنا الذي استوى على ظهري إنسانٌ كان يرى فيَّ جناحيه، وكنت أراه في قلبي وطنًا. امتطاني في سِلْمه وحربه، في فرحه وحزنه، كنت ظلَّه حين ضلَّ الطريق، وكنت صهيله حين ضاقت به الدنيا. من حوافرِي خرجت أولى الفتوحات، وعلى ظهري كُتبت ملاحم الشرف، حتى صرت رمزًا للفروسية، وصار اسمي قرين الشجاعة والكرم.


الحصان في خلوته يتأمل 
لكن الزمان غيّر ملامح الأشياء.
دخلت الآلة بيني وبينه، فاستبدل دفء أنفاسي بصوت الحديد البارد، واستبدل ركضي بصوت المحرك، ونسيني كما يُنسى صديق الطفولة حين يكبر صاحبه.
ثم لم يكتفِ، بل أدخلني إلى ساحات المراهنات، وجعل من نسلي سلعةً في أسواق النخاسة، يساوم عليها من لا يعرف قيمة العرق ولا شرف الدم.
هكذا تحوّلت من رفيقٍ إلى رقم، ومن مجدٍ إلى ربح، ومن نَفَسٍ إلى صورةٍ تُعلَّق في مضمارٍ صاخبٍ بالرهانات.
وكم آلمني أن أسمع اسمي يُتلى في الأغاني، ويُزيَّن في الشِّعارات، بينما يُنسى الفارس الذي كان يخصف لجامي بيده.
لقد ذكر العالم الحصان العربي ونسي فارسه العربي، ذلك الذي كان إذا امتطاني صدق، وإذا قاتل بي سامح، وإذا انتصر تواضع.
ما أعجب هذا العالم حين يمدح الرمز وينسى صاحبه، ويحتفي بالصهيل وينسى الروح التي أنطقت الحرف الأول منه.
واليوم، في زمن الهجين الحضاري الذي يَلتبس فيه الأصل بالمسوخ، أرى الفروسية وقد أُلبِست ثوبًا لا يشبهها.
أراها تتراقص في المهرجانات، وتُباع في المواسم، وتُصفّق لها الجموع التي نسيت أن للفروسية معنى لا يُشترى.
لقد ألبسوها بدلة دناديش الرقّاصة، بعد أن كانت عباءة الفارس.
نزعوا عنها وقارها، ومزّقوا منها ما تبقّى من عزٍّ، حتى صارت حديثَ فرجةٍ بعد أن كانت وعدَ بطولة.
كانت ظهورُنا عزًّا لمن ركبها، وبطونُنا كنزًا لمن عرفها، فإذا بالزمن يقلب الصورة، فيُعلي الكنز ويسقط العز.
أنا الحصان العربي… أحمل في عينيّ ذاكرة الصحراء، وفي أنفاسي عبق المعارك القديمة.
شهدتُ ملوكًا وبدويين، وشهدتُ المآذن والدماء، وشهدتُ الإنسان حين كان حرًّا، وحين صار عبدًا 
لرغباته.
لم أعد أغار على اسمي بقدر ما أغار على مَن سمَّاني.
وقال خيلنا وبنات خيلنت
قدع الخيل من عند اوجوها
لقد صار الإنسان يلهث وراء ما كان يجب أن يلهث منه، ويركض خلف بريقٍ لا يحمل دفءَ الأرض ولا نقاء السريرة.
أيها الإنسان، كنتَ تركض بي نحو المجد، فصرتُ أراك تركض وحدك نحو الوهم.
كنتَ تركب ظهري لتعلو، فصرتَ تسير على رأسك لتسقط.
كنتَ تفتخر بي لأنني وفيٌّ، فكيف نسيتَ أن الوفاء هو ما كان يجعلك إنسانًا؟
ها أنا اليوم في خلوة الصمت، أتنفّس غبار الذاكرة، وأتساءل:
هل أنا رخيص لهذه الدرجة؟
أم أن رخصي لم يأتِ إلا حين فقدتَ أنت قيمتك؟
أنا الحصان الذي نطق حين سكت الإنسان، لأنني ما زلت أحتفظ ببعض النبل في زمنٍ فقد النبلاء.
صهيلي لم يعد للسباق، بل للعتاب.
أحزاني ليست من سوطٍ على ظهري، بل من جرحٍ في قلب الأمة التي كانت تركض معي، فأضحت تركض مني.
ومع ذلك، سأبقى هنا، في خلوة الغروب، أُحدّث الريح عن أيامٍ كان فيها الإنسان فارسًا، وكان في ركضي معنى الحياة، لا مجرّد حركة.
وسأظل أصدح
إنّ العزّ لا يُورث، والفروسية لا تُقلَّد، والنُّبل لا يُشترى.
فربما يسمعني إنسانٌ ما… لم ينسَ بعد كيف يكون فارسًا.
(والخيل اللي ماترد الخيل احرن).

مؤسس الموقع : عايد حبيب

عضو قصر ثقافة عبد الحميد رضوان كما كان مدير مكتب مصر اليوم العربية ومسئول عن مكتب الأهرام الآن سابقاً، وفى الوقت الحاضر هو مدير مكتب الموطنى. كما لديه كتابين منتشرين بشكل واسع في الأخبار

إرسال تعليق

أحدث أقدم
هذا الإجراء غير مسموح لحماية المحتوى.